فصل: استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين

كان هذا الحصن ماردين من ديار بكر وأقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده وكان في ولاية الموصل وكان ينجر إليه خلق كثير من الأكراد يفسدون السابلة‏.‏ واتفق أن كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد وهي لبعض التركمان فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لإنجاده وقاتل كربوقا قتالا شديداً‏.‏ ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن أرتق وحبسه بقلعة ماردين عند المغني فبقي محبوساً مدة طويلة وكثر ضرر الأكراد فبعث ياقوتي إلى المغني صاحب الحصن في أن يطلقه ويقيم عنده بالربض لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط‏.‏ وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للإغارة معهم فلا يهيجهم‏.‏ ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الإغارة ودنا من القلعة‏.‏ وعرضهم على القتل إن لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها‏.‏ وجمع الجموع وسار إلى نصيبين وأغار على جزيرة ابن عمر وهي لجكرمش فكبسه جكرمش وأصحابه في الحرب بينهم فقتله وبكاه جكرمش‏.‏ وكان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت إلى أبيها وجمعت التركمان‏.‏ وجاء سقمان بهم إلى نصيبين فترك طلب الثأر فبعث إليه جكرمش ما أرضاه من المال في ديته ورجع وقدم بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمش وخرج منها لبعض المذاهب‏.‏ وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمش فسار إليها سقمان وعوض علياً ابن أخته جبل جور وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا واستضاف إليهما نصيبين والله أعلم‏.‏

 وفاة سقمان في أرتق وولاية أخيه أبي الغازي مكانه بماردين

ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن أرتق على الإفرنج وكان استبد بها على الخلفاء العلويين أهل مصر ونازله الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن أرتق سنة ثمان وتسعين‏.‏ وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبد بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفاً على دمشق من الإفرنج فأسرع المسير إليه معتزماً على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين وندم طغركين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه‏.‏ ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره وقد كان أصحابه عندما أشفى على الموت أشاروا عليه بالرجوع إلى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وإن مت كان لي ثواب شهيد‏.‏ فلما مات حمله ابنه إبراهيم إلى حصن كيفا فدفنه به‏.‏ وكان أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد كما قدمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين أخيه بركيارق‏.‏ فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون بغداد له وممالك أخرى من الممالك الإسلامية ومن جملتها حلوان وهي إقطاع أبي الغازي فبادر وخطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد وكان من شيعة السلطان محمد فجاء إلى بغداد ليزعج أبا الغازي عنها ففارقها إلى يعقوب وبعث إلى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق ويحكم الصلح في إقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك‏.‏ ومات بركيارق على أثر ذلك فخطب أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما استولى على الأمر عزله عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمش فحاصروها‏.‏ وبعث جكرمش إلى رضوان وأغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما ورحلوا مفترقين على نصيبين‏.‏ وسار أبو الغازي إلى ماردين وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله تعالى أعلم‏.‏ تعليق على بعض الأخبار المهمة ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا وفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا وكان أول من وصل منهم الملك فيليب ملك افرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسباً وإن كان ملكه ليس بالكثير‏.‏ وكان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظيمة فقويت به نفوس من على عكا منهم ولحوا في قتال المسلمين الذين فيها وكان صلاح الدين بشفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد‏.‏ وأرسل إلى الأمير أسامة مستحفظ بيروت يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ففعل ذلك وسير الشواني في البحر فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالا من أصحاب ملك إنكلترا الفرنج وكان قد سيرهم بين يديه وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها فاقتتلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوهم وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا وأما الفرنج الذين على عكا فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبع منجنيقات رابع جمادى الأولى فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم فقرب منهم وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم فكانوا يشتغلون بقتالهم فيخف القتال عمن بالبلد‏.‏ ثم وصل ملك إنكلترا ثالث عشر جمادى الأولى وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس وأخذها من الروم فإنه لما وصل إليها غر بصاحبها وملكها جميعاً فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج‏.‏ فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كباراً مملوءة رجالا وأموالا فعظم به شر الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها‏.‏ ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بسطة كبيرة مملوءة من الرجال والعدد والأقوات فتجهزت وسيرت من بيروت‏.‏ وفيها سبعمائة مقاتل فلقيها ملك إنكلترا مصادفة فقاتلها وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص ونزل مقدم من بها إلى أسفلها وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية يعرف بغلام ابن شقتين فخرقها خرقاً واسعاً لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر فغرق جميع ما فيها وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ثم إن الفرنج عملوا دبابات وزحفوا بها فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخوا تلك الكباش فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلاً كبيراً من التراب مستطيلاً وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من وراءه لا ينالهم من البلد أذى حتى صار على نصف علوه فكانوا يستظلون به ويقاتلون من خلفه فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها‏.‏ فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم فلم يقدر لهم على نفع‏.‏

 ذكر ملك الفرنج عكا

في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة عكا وكان أول وهن دخل على من بالبلدان الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم فخرج إلى ملك افرنسيس وبذل تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ويكنهم من اللحاق بسلطانهم فلم يجبه إلى ذلك فعاد علي بن أحمد إلى البلد فوهن من فيه وضعفت نفوسهم وتخاذلوا وأهمتهم أنفسهم‏.‏ ثم إن أمراء ممن كان بعكا لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب والفرنج لم يجيبوا إلى التسليم اتخذوا الليل جملا وركبوا في شيء صغير وخرجوا سراً من أصحابهم ولحقوا بعسكر المسلمين وهم عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الوشاقي ومعهم غيرهم فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم وضعفاً إلى ضعفهم وأيقنوا بالعطب‏.‏ ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت فلم يقنعوا بما بدل فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويتركوا البلد بما فيه ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ويقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به فشرعوا في ذلك واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح فبطل ما عزموا عليه لظهوره‏.‏ فلما عجز الناس من حفظ البلد زحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم فظهروا من البلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون وكانت هي العلامة إذا اخترمهم أمر‏.‏ فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم طلباً منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا وصلاح الدين يحرضهم وهو في أولهم‏.‏ وكان الفرنج قد خفوا عن خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد فقرب المسلمون من خنادقهم حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضراً خرج إلى الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وحلفوا له عليه وأن يكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين‏.‏ فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه سلماً فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم‏.‏ وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم فشرع في جمع المال وكان هو الأمان له إنما يخرج ما يحصك إليه من دخل البلاد أولا بأول‏.‏ فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم فأشاروا بأن لا يرسل شيئاً حتى يعاود يستحلفهم على إطلاق أصحابه وأن يضمن الداوية ذلك لأنهم أهل دين يرون الوفاء فراسلهم صلاح الدين في ذلك فقال الداوية لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا‏.‏ وقال ملوكهم إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر فلم يرسل إليهم شيئاً وأعاد الرسالة إليهم وقال نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ونعطيكم رهناً بالباقي وتطلقون أصحابنا وتضمن الداوية الرهن ويحلفون على الوفاء لهم فقالوا لا نحلف‏.‏ إنما نرسل المائة ألف دينار التي حصلت والأسرى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فعلم الناس حينئذ غدرهم وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال ويطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ركب الفرنج وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وقصدوهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن مواقفهم وإذ أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له‏.‏ فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه وسير الأسرى والصليب إلى دمشق‏.‏ فكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان وتخريبها لما فرغ الفرنج لعنهم الله من إصلاح أمر عكا برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا وكان على اليزك ذلك اليوم الملك الأفضل ولد صلاح الدين ومعه سيف الدين اياز كوش وعز الدين جورديك وعدة من شجعان الأمراء فضايقوا الفرنج في مسيرهم وأرسلوا عليهم من السهام ما كان يحجب الشمس ووقعوا على ساقة الفرنج فقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة‏.‏ وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال فأمر العساكر بالمسير إليه فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب وإنما كانوا على عزم المسير لا غير‏.‏ فبطل المدد وعاد ملك الانكلتار إلى ساقة الفرنج فحماها وجمعهم وساروا حتى أتوا حيفا فنزلوا بها ونزل المسلمون يقيمون بقرية بالقرب منهم وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم وعوض ما هلك من الخيل‏.‏ ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم من قدروا عليه فيقتلونهم لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتلهم بمن قتلوا ممن كان بعكا فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون وقاتلوهم أشد قتال فنالوا منهم نيلا كثيراً‏.‏ ونزل الفرنج بها وبات المسلمون قريباً منهم فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك فقتلوا منهم وأسروا منهم‏.‏ ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف وكان المسلمون قد سبقوهم إليها ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق‏.‏ فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة الحقوهم بالبحر ودخله بعضهم فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد‏.‏ وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريباً من المعركة فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم فلما انهزم المسلمون عنهم قتل منهم كثير والتجأ المنهزمون إلى القلب وفيه صلاح الدين فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعتهم واشتهرت الهزيمة وهلك المسلمون‏.‏ لكن كان بالقرب من المسلمين شعرى كثيرة الشجر فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة فعادوا وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه اياز الطويل وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله فلما نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها ولم يكن بها أحد من المسلمين فملكوها ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة واجتمع بأثقاله بها وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بتخريب عسقلان وقالوا له قد رأيت ما منا بالأمس وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلونا لننزاح عنها وينزلون عليها فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا ويعظم الأمر علينا لأن العدو وقد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها ونحن قد ضعفنا بما خرج عن أيدينا ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها فلم تسمح نفسه بتخريبها وندب الناس إلى دخولها وحفظها فلم يجبه أحد إلى ذلك‏.‏ وقالوا إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان وأمر بتخريبها تاسع عشر شعبان والقيت حجارتها في البحر وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع‏.‏ ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها‏.‏ وكان المركيس لعنه الله لما أخذ الفرنج عكا قد أحسن من ملك انكلتار بالغدر به فهرب من عنده إلى مدينة صور وهي له وبيده وكان رجل الفرنج رأياً وشجاعة‏.‏ وكل هذه الحروب هو اثارها فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك انكلتار يقول له مثلك لا ينبغي أن يكون ملكاً ويتقدم على الجيوش تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك يا جاهل لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجداً فرحلته وملكتها صفواً عفواً بغير قتال ولا حصار فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها‏.‏ وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان ومضى إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد‏.‏ وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب تجاه الفرنج ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر وقرر قواعده وأسبابه وما يحتاج إليه وعاد إلى المخيم ثامن رمضان‏.‏ وفي هذه الأيام خرج ملك انكلتار من يافا ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم فوقع به نفر من المسلمين فقاتلوهم قتالاً شديداً وكاد ملك انكلتار يؤسر ففداه بعض أصحابه بننسه فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمن وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون‏.‏ الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكرياء فاضطغنها على الموحدين وأغذ ااسير وانحاش إليه كافة أولاد أبي الليل‏.‏ واجتمع أقتالهم أولاد مهلهل إلى صاحب تونس وخرج معهم شيخ الدولة أبويعقوب بن يزدوتن والوزير أبو عبد الله بن يوؤيكبن في العسكر للتقاء ووقوا سلطانهم بأنفسهم‏.‏ فمما زحف إليهم السلطان أبو البقاءاختل مصافهم وانهزموا وانتهب المعسكر وقتلى الوزير ابن يرزيكن وأجفلت أحياء اللعوب إلى القفر ودخل العسكر إلى البلد واضطرب الأمر وخرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلا‏.‏ ثم تفرق عنه العسكروتسايلوا إلى السلطان أبي البقاء‏.‏ وفر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجنات فتل إلى السلطان واعتقله فى بعض الفازات وغدا على السلطان أهل الحضرة من مشيخة الموحدين والفقهاء والكافة فعقدوا بيعته‏.‏ وقتل الأمير أبو بكر فسمي الشهيد آخر الدهر وباشر قتله ابن عمه أبو زكرياء يحيى بن زكرياء شيخ الموحدين‏.‏ ودخل السلطان من الغد إلى الحضرة واستقل بالخلافة وتلقب الناصر لدين الله المنصور‏.‏ ثم استضاف إلى لقبه المتوكل - وأبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركا لألى زكرياء يحيى بن أبي الأعلام الذيى كان رئيسا عنده قبلها وامشمرعلى خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن غمر وولى على الأشغالى بالحضرة منصور بن فضل بن مزني وجرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره الخبر عن بيعة ابن مزني ليحيي بن خالد ومصادر أموره كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق في جملة السلطان أبي البقاء خالد وتنكرت له الدولة لبعض النزعات فخشي البادرة وفر ولحق بمنصور بن مزني‏.‏ وكان منصور قد استوحش من ابن غمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب وعقد له على حجابته وجمع له العرب وأجلب على قسطنطينة أياما وبها يومئذ ابن طفنل وكان قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد واشتملوا عليه واشتمل عليهم وأغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره واطلع ابن مزني على سوء دخلته ودخلتهم فقبض يده من طاعته و انصر ف عنه الى بلده انفضت جموعه‏.‏ فى راجع ابن مزني طاعة السلطان أبى البقاء ومخالصة بطانته وحاجبه فتقبلوه ولحق يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشاً ونزل على أميرها أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من مقدمه‏.‏ وولي أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمده وزحف الى محاربة قسطنطينة فامتنعت عليه ثم استدعاه ابن مزني بسكرة فأقام عنده وأسنى له الجراية ورتب عليه الحرس‏.‏ وكان السلطان ابن اللحيلني يبعث إليه من تونس بالمجائزة مصانعة له في شانه حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية فلم يزل في إسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى بن خالد بمكانه عنده سنة إحدى وعشرين‏.‏

 الخبر عن بيعة السلطان أبي بكربقسطنطينة علي يد الحاجب ابن غمروأولية

ذلك لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد اللرحمن يعقوب بن الخلوف مضافأ إلى رياسته على قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها وكان يلقب المزوار وجعله حاجبا لأخيه الأمير أبي بكرعلى قسطنطينة فانتقل إليها‏.‏ وعكف السلطان أبو البقاء بتونس علىلذاته وأرهف حده وعظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش ودعا ابن حريز من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه وخشوا بادرته وأعمل الحاجب ابن غمر وصعبه منصور بن فضل عامر الزاب الحيلة في التخلص في إيالته واستغضب راشد بن محمد أمير مغراوة نزع إليهم عند استتيلاء بني عبد الواد على وطنه فتلقوه من الكرامة بما يناسبه واستقز جملتهم وعليه وعلى قومه كانت تدوررحا حروبهم - واستصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميرا على زناتة فرفع بعض حشمه إلى الحاجب في مقعدحكمه وقد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه‏.‏ وأحفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فركب لها عزائمه وقوض خيامه لحيته مغاضبا فوجد الحاجب بذلك سبيلا إلى قصده وتمت حيلتهو حيلة صاحبه‏.‏ وأهم السلطان شأن بجابة ونواحيها وخشي عليهاعن راشد بما كان صديقا ملاطفا لعبد الرحمن بن الخلوف وفاوضهما فيمن يددفعه إليها فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني وأشارمنصور بالحاجب وتدافعها أياما حتى دفعهما جميعا إليها‏.‏ وطلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسطنطينة فعقد له وولى عليا ابن عمه على الحجابة بتونس نائبا وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه أياز في عسكر فحاصروا الرها وعاثوا في نواحيها ثم سروج وشمشاط وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع فقبض على أياز بن أبي الغازي ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته إلى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان وهو بحصن كيفا مستنجداً به فأنجده وساروا إلى البرسقي آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه أياز من الأسر‏.‏ وأرسل السلطان إلى أبي الغازي يتهدده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخاً وكان طغركين مستوحشاً لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد وبعثا بذلك إلى صاحب إنطاكية فجاء إليهما قرب حمص وتحالفا وعاد إلى إنطاكية‏.‏ وسار أبو الغازي إلى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث إلى السلطان بخبره وأبطأ عليه وصول جوابه‏.‏ فيه‏.‏ وجاء طغركين إلى حمص فدخل على قيرجان وألح عليه بقتل أبي الغازي ثم أطلقه فيرجان وأخذ عليه‏.‏ وسار أبو الغازي إلى حلب وبعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الأمراء لقتال أبي الغازي وقتال الإفرنج بعده فساروا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش كفل ابنه ألب أرسلان بعد موته ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان إليهما في ذلك‏.‏ وبادر أبو الغازي وطغركين فدخلا إليهما فامتنعت عليهما فساروا إلى حماة من أعمال طغركين وبها ذخائره ففتحوها عنوة ونهبوها وسلموها إلى الأمير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم أياز بن أبي الغازي وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص ساروا إلى روجيل صاحب إنطاكية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بغدوين صاحب القدس والقمص صاحب طرابلس وغيرهما‏.‏ واتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة أفامية فلم تبرح العساكر مكانها فافترقوا وعاد طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين والإفرنج إلى بلادهم‏.‏ ثم كان أثر ذلك فتح كفر طاب على المسلمين واعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب إنطاكية وقد جاء في خمسمائة فارس مدداً للإفرنج في كفر طاب فانهزم المسلمون وكان تمحيصهم ورجع برسق أمير العساكر وأخوه منهزمين إلى بلادهم‏.‏ وكان أياز بن أبي الغازي أسيراً عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة والله تعالى أعلم‏.‏

  استيلاء أبي الغازي على حلب

كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفي سنة سبع وخمسمائة قام بأمر دولته لؤلؤ الخادم‏.‏ ونصب ابنه ألب أرسلان في ملكه‏.‏ ثم استوحش منه ونصب مكانه أخاه سلطان شاه واستبد عليه‏.‏ ثم سار لؤلؤ الخادم إلى قلعة جعبر سنة إحدى عشرة بينه وبين مالك بن سالم بن بدران فغدر به مماليك الأتراك وقتلوه عند خرت برت واستولوا على خزائنه‏.‏ واعترضهم أهل حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولي شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ‏.‏ ثم عزل لشهر وولي أبو المعالي بن الملحي الدمشقي‏.‏ ثم عزل وصودر اضطربت الدولة وخشي أهل حلب على بلدهم من الإفرنج فاستدعوا أبا الغازي بن أرتق من ماردين وسلموا له البلد‏.‏ وانقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم‏.‏ ولما ملكها لم يجد فيها مالاً فصادر جماعة من الخدم وصانع الإفرنج مالهم‏.‏ ثم سار إلى ماردين بغية العودة إلى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين مرتاش‏.‏ واقعة أبي الغازي مع الإفرنج ولما استولى أبو الغازي على حلب وسار عنها طمع في الإفرنج وساروا إليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها وحاصروها فلم يكن لأهلها بد من مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل المصانعة‏.‏ وبعثوا إلى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا‏.‏ وجمع أبو الغازي من العساكر والمتطوعة نحواً من عشرين ألفاً‏.‏ وسار بهم إلى الشام سنة ثلاثة عشرة ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني وطغان أرسلان بن أسكين بن جناح صاحب أرزن الروم‏.‏ ونزل الإفرنج قريباً من حصون الأماري في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش وتحصنوا بالجبال من كل جهة إلا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي ودخل عليهم من تلك المسارب وهم غازون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت إلا القليل وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلاثمائة ألف دينار وقتل سرجان صاحب إنطاكية‏.‏ ونجا فلهم من المعركة فاجتمع من الإفرنج وعاودوا اللقاء فهزمهم أبو الغازي وفتح حصن الأثارب ورزدنا وعاد إلى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات إلى ماردين وولى على حلب ابنه سليمان‏.‏ ثم وصل دبيس بن صدقة إلى أبي الغازي مستجيراً به‏.‏ فكتب إليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي بإبعاد دبيس‏.‏ ثم وقع بينه وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع‏.‏ وسار أبو الغازي إلى الإفرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم‏.‏ ثم سار هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الإفرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن وكان لا يطيل المقام بدار الحرب لأن أكثر الغزاة معه‏.‏ التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاة فيستعجل العود إن فنيت أزوادهم والله أعلم‏.‏